بررت أبوظبي إبعاد عشرات المعلمين الإماراتيين وخبراء التربية من حقل التعليم قبل نحو 10 سنوات، بضرورة تحصين التعليم من "الأدلجة والتسييس". وعللت جميع خطواتها وقراراتها اللاحقة على هذا الأساس. فما هو شكل التعليم في الدولة، وما هي مظاهر الأدلجة والتسييس اليوم؟ وإلى أي أيدولوجية اُختطف التعليم؟
إقصاء الكفاءات الوطنية بذريعة الأدلجة
أقدمت وزارة التربية والتعليم عام 2008 على إقصاء عشرات المعلمين المواطنين، خوفا على "تسييس التعليم وأدلجته". و في يونيو 2008 أشاد شملان يوسف العيسى في مقال بعنوان "قنبلة موقوتة" بصحيفة "الاتحاد"، واصفا قرار الإبعاد بـ"الحازم والصائب"، الذي " يدل دلالة قاطعة على إدراك القيادة في دولة الإمارات لأهمية عدم تسييس الجيل الصاعد من الشباب".
أما محمد خلفان الصوافي فقال في يوليو 2008 بصحيفة "الاتحاد" في مقال بعنوان "مصلحة الوطن خطوط حمراء"، "أكبر خطر يمكن أن يهدد المنظومة التعليمية في أي مكان في العالم هو في تسييس التعليم أو أدلجته فكرياً ودينياً".
وقد زعم وزير الصحة السابق المُقال على خلفية قضايا فساد، حنيف القاسم، في سبتمبر الماضي أثناء محاضرة في دبي: "أن دولة الإمارات استطاعت احتواء محاولة تسييس المناهج التعليمية من قبل بعض عناصر جماعة الإخوان المسلمين التي تتبنى فكراً أيديولوجياً لتحقيق مصالحها السلطوية، حيث تتضمن طرح أفكار وشعارات جوفاء". ولكنه لم يقدم دليلا واحدا على ما يقول.
خطورة أدلجة التعليم وتسييسه
إضافة للنصوص السابقة، في كشف خطورة أدلجة التعليم وتسييسه، فقد نشرت صحيفة "الخليج" في نوفمبر 2010 مقالا لأحد كتابها غير المعلن أسماؤهم بعنوان "في أدلجة التعليم"، استنكر فيه تولي الاشتراكيين في فرنسا تطوير التعليم، قائلا:" ما الذي سيفعله الاشتراكيون في فرنسا بنظام التعليم؟..عندما ترتبط الأيديولوجيا بالأحزاب تظهر المفارقات، وتلوح المهازل والحماقات،.. وكيف تسير الأمور إذا طبّق الحزب توجهاته على نظام التعليم؟ ظاهر خطة الحزب الاشتراكي الفرنسي تربوي بحت، تعليمي محض. .. لكن باطن القضية شيء آخر".
وفي مقال بعنوان "أزمة التعليم في دولنا" بصحيفة "البيان" لعبدالملك خلف التميمي، قال: "إن البعض يرى الحل (تطوير التعليم) في أدلجة وتسييس التعليم سياسيا أو دينيا، ولا يدرك بأن ذلك التفكير هو جوهر المشكلة وأساس الأزمة وليس حلاً لها".
مظاهر أدلجة التعليم في المناهج
رغم ما سبق من خطورة أدلجة وتسييس التعليم، فقد شهدت مناهج التعليم في دولة الإمارات فائضا هائلا من الأيدولوجيا والسياسة التي جاءت على حساب نوعية التعليم وكميته. ففي يونيو الماضي، كشف وزير التربية، حسين الحمادي، أن الوزارة بصدد إدخال المناهج الجديدة والمتطورة لمادة التربية الاسلامية في المدارس اعتباراً من العام الدراسي الحالي. وبحسب الرصد الميداني لـ"الإمارات 71"، وشكاوى أولياء الأمور، فقد تم اختصار حصص التربية الإسلامية في المدارس على حساب فرض كتب خارجية دخلت المناهج، أو كتب تم طرحها على الطلاب بصورة إلزامية بغطاء "الإثراء".
وفي مايو الماضي، قالت صحيفة "الخليج" نقلا عن وزارة التربية، أنها خصصت كتاب "السراب" لطلبة الصف الثاني عشر، ضمن سلة كتب أخرى لطلبة المرحلة الثانوية. كما اعتمدت الوزارة ما أسمته عددا "من الكتب التفاعلية والتكاملية"، بمعدل حصّة واحدة أسبوعياً.
"الكتاب الأسود".. كتاب السراب
ويعتبر كتاب "السراب" الذي يصفه إماراتيون "بالكتاب الأسود" أكثر مظاهر أدلجة التعليم في الدولة، إذ تم فرضه على طلبة الصف الثاني عشر كاملا، فضلا عن تضمين مادة "الدراسات الاجتماعية والتربية الوطنية" الجزء الأكبر من هذا الكتاب. إذ تم اختزال مواد التاريخ والجغرافيا والاقتصاد وعلم الاجتماع، بهذه "الدراسات".
ووصف الكتاب، قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي، بـ"رجل المرحلة" الذي استعاد مصر من أيدي "الإخوان المسلمين" وأنقذ بلاده والمنطقة العربية كلها من براثن التنظيمات المتطرفة والإرهابية.
وأشاد رئيس تحرير صحيفة "الاتحاد" محمد الحمادي في سبتمبر الماضي بمقال له، "بالسراب" قائلا:"إن تحصين شبابنا بمثل هذه المقررات من الكتب الخارجية خطوة تستحق كل الإشادة بوزارة التربية والتعليم، ومواكبة الوزارة لواقع المجتمع وتحدياته نقطة تحسب لها في التطوير الجديد لمناهجها الذي كشف عن أن المواد الجديدة التي تمت إضافتها تتماشى ومتطلبات المجتمع وحاجات الطالب، فتطوير التعليم أساس تقدم الأمم"، على حد تعبيره، إذ اعتبر جميع مضامين الأدلجة السابقة، تطويرا للتعليم.
و اعتبرت عائشة عبيد المهيري، رئيس قسم التقويم والتجريب، أن لتدريس كتاب «السراب» "خصوصية معينة، فكل معلم مطلوب منه الالتزام بالمضمون الذي طرحه جمال السويدي في الكتاب"، حسب تقرير موسع لصحيفة "الاتحاد" في سبتمبر الماضي.
و اعترفت "الاتحاد" بالأدلجة والتسييس الوارد في كتاب "الدراسات الاجتماعية"، إذ قالت: "عاد طلبة المرحلة الثانوية في العام الدراسي الحالي، ليجدوا فكراً آخر بانتظارِهم".
واعترفت الوزارة، بنقاط ضعف المادة الجديدة؛ إذ قالت عائشة المهيري، ردا على "تغييب المعلومات التاريخية والجغرافية للمنطقة والعالم التي يجب على كل طالب أن يدركها خلال سنوات المدرسة": هذه "المواضيع الأساسية تمت تغطيتها في الصفوف من الأول إلى الثامن. وبالنسبة للمراحل الأخرى، فإن كتب النشاط غنية بالمصادر والمعلومات"، على حد قولها.
"السياسة تنضج العقل"!
هذا العنوان، حرفيا لإحدى فقرات تقرير صحيفة "الاتحاد"، المشار إليه أعلاه. إذ يلاحظ الانتقال من التخويف والتحذير من السياسة إلى امتداحها. ونقلت الصحيفة ما قالت إنه آراء الطلبة، الذين "اعتبروا أن إدخال السياسة للمرة الأولى ربما في المنهاج الدراسي أمر يساعد على إنضاج عقل الطالب".
ونقلت "الاتحاد" عن المدرس محمود عبدالوهاب، رده على المعترضين على "إدخال السياسة في المنهاج التعليمي، سواء من أولياء الأمور ومن مديري المدارس"، قوله: "كتاب «السراب»، تنويري وليس سياسياً بحتاً، نافيا، "أن يكون هناك أي توجيه لفكر الطلبة".
شكاوى أولياء الأمور
وإلى جانب ما أقرت به بعض الصحف الرسمية من اعتراضات على "تعديلات" المناهج، وثق إماراتيون عددا من المداخلات على إحدى الإذاعات المحلية، تتضمن شكوى مريرة من المواطنة "أم محمد"، وهي تتحدث إلى مقدم البرنامج على الهواء مباشرة، ليجد أمامه سيلا من الحقائق التي تثقل كاهل الطلبة وذويهم نتيجة المناهج الجديدة. فقد أكدت أن تعديل المناهج بات عادة سنوية، وأن الطلاب لا يجدون الوقت الكافي لدراسة هذا الكم الهائل من المعلومات، لدرجة أن بعض الطلبة يعجزون عن حمل حقائبهم المدرسية لكثرة الكتب الموجودة بحوزتهم.
وأكدت "أم محمد" أن منهاج "الرياضيات" و "العلوم" يصل لنحو 300 صفحة، وهي مناهج مترجمة بصورة كاملة، ويشكو المدرسون أنفسهم من القدرة على توصيل المعلومات للطلاب، فضلا عن وجود أخطاء في الترجمة بحسب "أم محمد"، والتي ختمت بالتأكيد على أن سياسة الوزارة هي فرض الأمر الواقع، ولا تكترث بهموم الطلاب وذويهم ولا بقضاياهم، مستندة إلى تجربة سنوات طويلة من التعامل معها.
وإزاء ما تقدم، وبعد نحو 10 سنوات من إقصاء المعلمين الإماراتيين، فلا يزال التعليم متعثرا، والذرائع متكررة، والتعليم والطلاب وأولياء أمورهم يعيشون فصولا مستمرة من المعاناة، والأيدلوجيا والسياسة تلتهم المناهج وتختطف العقول نحو تيار سياسي لا يكترث بالحقوق والحريات ويسوّق شخصيات تتهمها منظمات حقوقية بارتكاب "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
والأدهى من ذلك؛ أن المناهج الجديدة -وإن كانت قد قاومت الطائفية المذهبية- ولكنها أججت بدلا منها الطائفية السياسية، والفرقة المجتمعية.