هي زيارة "تاريخية"، كما وصفتها السعودية رسمياً، ويبدو هذا الوصف له دلالات تلقي بظلال التأثير السياسي والاقتصادي وحتى الجغرافي على مصر، وهو ما سعت إليه أبوظبي جاهدة منذ الانقلاب الذي وقع في مصر وقاده عبد الفتاح السيسي ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي.
زيارة الملك سلمان والوفد المرافق له، الأكبر في تاريخ الدبلوماسية السعودية المكون من أكثر من مائة وسبعين شخصية، بينهم تسعة عشر وزيراً، أسفرت عن توقيع أكثر من عشرين اتفاقية كافة المجالات، بلغت قيمتها أكثر من خمسة وعشرين مليار دولار أمريكي.
هذا الدعم الاقتصادي غير المسبوق وضع بشكل عملي التوجه السياسي والاقتصادي وحتى العسكري المصري تحت جناح القرار السعودي، مع تحذير غير مُعلن بأن أي تراجع عن المواقف السعودية أو مخالفة لها فإن هذا الدعم سيتوقف، وما حصل مع لبنان ومنحة دعم الجيش مثال قريب وحاضر.
هذا الأمر من شأنه أن يقلق من سبق في هذا "الاستثمار" ودفع ومنح حتى يحصل على "الولاء السياسي" والقدرة على التحكم بالقرار. فعلى الرغم من أن أبوظبي دفعت بقوة مالية ضخمة لدعم الانقلاب ووقف حالة التذمر الشعبي بسبب فشل السيسي في إيجاد أي حل للأزمات المتراكمة في مصر، جراء الفساد الذي قدر بـ 800 مليار جنيه في أول سنة من حكمه، إلا أن ذلك أخفق بشكل ذريع في انتشال الاقتصاد المصري، رغم أن أبوظبي خصصت أكثر من 52 % من جملة المساعدات الإماراتية الخارجية، والتي تقدر بنحو 12 مليار درهم. وبحسب المعطيات الرسمية فإن الإمارات قدمت 14 مليار دولار لمصر منذ يوليو 2013 وحتى مارس 2015.
وكما هو معلوم، فإن أبوظبي كانت من أقوى الداعمين للانقلاب في مصر مادياً وسياسياً، بل كانت الدولة الأولى خليجيا وعربيا في هذا الجانب. وفي وضع تلمست فيه السعودية تضعضع الوضع في مصر اقتصادياً وسياسياً، أعلنت عن ترتيب زيارة "الفرصة الذهبية" لمصر، وجني المكاسب بالنسبة للسعودية وجني ثمار دعمها، إلى جانب سحب البساط من أي جهة تحاول السيطرة على القرار المصري، وهو ما حصل وبدأت تظهر نتائجه رسمياً.
من مخرجان زيارة الملك سلمان إلى القاهرة التي رشحت حتى الآن هي تغيّر في المواقف السياسية المصرية من إيران، وظهر ذلك جلياً في تصريح مصري رسمي مناهض للتدخل الإيراني في الشؤون العربية، وتمثل أيضاً في "رضوخ" السيسي لجملة من السياسات التي بدأت تفرضها السعودية في المنطقة، وترفض فكرة معارضتها فيها، أضف إلى ذلك موضوع ترسيم الحدود البحرية في هذا الوقت بالذات، وإعلان الرئاسة المصرية أن جزيرتي "تيران" وصنافير" أنهما تابعتان للسعودية وليس لمصر، وهو ما أثار ضجة في الشارع المصري، على ما اعتبروه تنازلاً وبيعاً لمصر.
وإزاء هذا التحرك السعودي، والذي يأتي في إطار سلسلة خطوات تتمثل في تشكيل تحالفات سياسية وعسكرية خليجية وعربية وإسلامية، قررت أبوظبي اتخاذ عدة خطوات إلى الوراء، بحيث انكمشت تحركاتها الخارجية التي كانت تسير بمعزل عن السعودية، بل كانت تحاول أن تظهر نفسها أنها "شرطي الخليج" القوي، وهو ما قامت الرياض بوأده مع تولي الملك سلمان سدة الحكم.
ويلاحظ المتتبعون للدور الإماراتي في القضايا المتعلقة بالمنطقة وخارجها أن مواقفها أصبحت لا تخرج عن محاور المواقف السعودية الرسمية، والتي قد تسبقها حتى، كما حدث في موضوع الاعتداء على السفارة السعودية في طهران، حيث خرج موقف أبوظبي قبل الموقف السعودي نفسه، في دلالات سياسية لا تخفي.
ولعل الترقب الحاصل حالياً هو كيف سيكون موقف أبوظبي بشأن خروج السيسي من "بيت الطاعة" واستجابته لما تطلبه الرياض منه، وكما يتوقع البعض فإن الاختبار الأول سيكون مع أي تقارب مصري تركي، في ظل الخلافات العميقة بين الأخيرة وأبوظبي، لا سيما وأن العلاقات بين الرياض وأنقرة تسودها حالة من التوافق والتحالف، بل والسعي السعودي لتفكيك العقد السياسية في المنطقة، في إطار ترتيبات تكهن بها الكثير من المحللين لحلحلة الأزمات في المنطقة، الغاية منها تقوية السعودية وتعزيز مكانتها عربياً ودولياً.
يرى مراقبون أنه إن تمكن الملك سلمان من فتح نافذة لتسوية العلاقات بين مصر وتركيا، فإن الأمر من شأنها أن يشكل صفعة لأبوظبي في هذا الجانب، ورسالة سعودية غير مباشرة بضرورة رفع يدها عن قضايا المنطقة، خصوصاً أن مواقف السيسي السابقة كانت محكومة بمواقف تصدر من أبوظبي.
فالتغييرات الحاصلة في السياسة الخارجية لمصر، وتحول وجهتها إلى بوصلة المواقف السعودية ونزعها عن أي موقف مغاير، من شأنه أن يجعل أبوظبي تشعر بخسارة سياسياً، بعد أن خسرت أثمان صناعة هذه المواقف وتثبيتها على مدى العامين الماضيين، وقد يجعلها تعيد حساباتها من جديد في مصر.