بعد خطابه الأول المقتضب فور توليه الحكم في السعودية، ألقى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز ثاني خطاباته الرسمية (10|3) متوجها فيه إلى الداخل السعودي ودول المنطقة والعالم عموما، راسما ملامح عهده بعد أكثر من 40 يوما من تسلمه الحكم في السعودية.
شهدت المدة بعد (23|1) يوم توليه العرش، نشاطا دبلوماسيا مكثفا في الرياض. استضاف فيها الملك سلمان غالبية قادة المنطقة الخليجية والعربية والإسلامية والدولية، ما أتاح له التعرف عن قرب من جميع الأطراف لتصوراتها ومواقفها وحدود مصالحها ومبادئها في نظرتها لذاتها، ونظرتها لعلاقاتها الثنائية مع الرياض، ثم نظرتها لمشكلات الأقليم التي تزداد تعقيدات وتحديات بصفة مستمرة، بين يدي مهددات محدقة بالمملكة. ولم يهمل الملك سلمان أيضا طوال تلك الفترة، الساحة السعودية الداخلية التي ينطلق من عافيتها ووحدتها نحو الخارج.
المؤشرات والتحولات في السياسة الخارجية للمملكة التي بدأت مع عهد الملك سلمان، لا يختلف إثنان على جديتها والفرص الجديدة التي طرحتها، مع تغير واضح في معظم علاقات الرياض الخارجية، مع آمال التحسن على الصعيد الداخلي في مجالات عديدة، منها الاقتصاد، والحقوق والحريات التي لا تزال بحاجة لمزيد من إظهار الالتزام الملكي بها.
مهما يكن من أمر، فقد تباينت وجهات نظر المتابعين للسياسة السعودية عامة، وخطاب العاهل السعودي خاصة حول تقييم هذا الخطاب. وتراوحت الآراء بين مرحب ومتحفظ ومتشكك في الداخل السعودي وخارجه أيضا.
ملامح الخطاب أم ملامح السياسة؟
وصفت وسائل الإعلام الخليجية والعربية الخطاب، بأنه يحدد ملامح سياسة الملك سلمان داخليا وخارجيا ودوليا على مستويات شتى. غير أن أولى مفارقات هذا الخطاب، أنه جاء "هادئا" على خلاف التحولات السعودية في الشهرين الأخيرين والتي امتازت "بالحراك الصاخب" كونه كسر النمطية في السياسة السعودية الخارجية منذ عام 2005 على الأقل.
المتغيرات في المواقف السعودية، أسست لتحالفات جديدة، وأنهت تحالفات أخرى، قوضت مشاريع، وشيدت مشروعات أخرى، على المستوى الداخلي والخارجي.
فداخليا، تم تصفية عدة مجالس وشخصيات حرفت السياسة السعودية في السنوات العشر الأخيرة إلى مواقف كانت تسير ضد مصلحة شعوب المنطقة وتطلعاتها وخاصة فيما يتعلق بالربيع العربي، وتدخل السعودية في هذه المحطات التاريخية بصورة أضرت بها. فإلغاء "مجلس الأمن السعودي" واستحداث مجلس بديل، والتخلص من شخصيات من قبيل خالد التويجري رئيس الديوان الملكي السابق، هو تحولات غير نمطية وغير هادئة.
وعلى الصعيد الخارجي، أنهى الملك سلمان، ودون إعلان، اللجنة الإستراتيجية الإماراتية – السعودية التي تشكلت في مايو من العام الماضي والتي أخذت على عاتقها "فرض رؤيتها" على المنطقة كما كان ينظر إعلاميون سعوديون ومصريون وخليجيون. وإلى جانب ذلك، حجّم الملك سلمان اندفاع نظام السيسي وأبوظبي في ملف الإرهاب، واستغلاله في أغراض خاصة بهم. ومد جسور العلاقات مع تركيا، وتحسنت العلاقات مع حركة حماس. وفوق كل ذلك، تنفست الدوحة الصعداء بعد سنة من التهديد والوعيد بصورة كادت أن تعصف بالكيان السياسي لدولة قطر.
قراءة في الخطاب
كالعادة، فإن الساسة السعوديين والخليجيين بصفة عامة، لا يميلون إلى الخطابات "الرنانة" أو التعبيرات الحادة وهي سياسة معروفة ومتبعة منذ عقود. لذلك، فإن "الهدوء" في الخطاب وغياب الانفعال والبعد عن التقريرات والاستنتاجات والقرارات الصارمة والنهائية لا وجود لها في خطاب رجل دولة.
ومع ذلك، فيمكن تلمس أهم ما جاء في الخطاب وما غاب عنه، على النحو التالي:
انطلق العاهل في كلمته إلى الداخل السعودي على مرتكزين أساسيين: الاقتصاد والأمن. فكما بدأ عهده بمشروعات اقتصادية ومكافآت ومنح لعموم الشعب السعودي فقد أكد على استمرار نهج دعم الاقتصاد وتطويره، جنبا إلى جنبا مع محاربة الفساد والمحاسبة على المال العام، والتوسع في المشروعات الاقتصادية بغض النظر عن انخفاض أسعار النفط. وهنا، أيضا، فإن العاهل السعودي ليس بوارد تغيير سياسة المملكة بخفض سقف الانتاج لرفع الأسعار، بل التعايش مع هذه الأزمة.
أما الجانب الأمني، فقد كان واردا بقوة في خطابه مشددا على دور القوات المسلحة، وذلك نظرا للتهديدات المختلفة التي تحيط بالمملكة من العراق واليمن والجماعات الإرهابية.
واتبع الملك سلمان داخليا، سياسة الباب المفتوح بتوجيه أوامر ملكية لأمراء المناطق بضرورة الاستماع إلى هموم المواطن السعودي. وبلغت ذروة المواقف الداخلية، تحريم التمييز في التنمية بين منطقة وأخرى، وتحريم التمييز بين مواطن وآخر. وهذا إن تم، فإن عهدا من العدالة الاجتماعية يمكن رؤيتها بوضوح في المملكة قريبا.
أما ما غاب عن الخطاب، هو الحديث المستفيض عن واقع الحقوق والحريات في الممكلة. ومع أن خطابات كهذه تكون عامة وتقدم خطوطا عريضة، إلا أن غياب هذا العنصر كان واضحا بصورة "خيبت آمال" المراقبين السعوديين والخليجيين.
مرتكزات السياسة السعودية الخارجية
حدد الخطاب بعضا من مرتكزات السياسة الخارجية للمملكة. فمصلحة السعودية هي المرتكز الأول لهذه السياسة. بكلمة أخرى، رؤية المملكة لعلاقاتها وسياساتها الخارجية والداخلية تنطلق من مبدأ تحقيق المصالح السعودية أولا، وعليه فليس هناك علاقات أو قطيعة إلا يما يخدم هذه المصالح.
كما ترفض السياسة السعودية التدخل في شؤون الآخرين أو حل الخلافات باستخدام القوة، كما تسعى دول خليجية وإقليمية أن تقوم به في ليبيا وسوريا والعراق لحساباتها الذاتية. وهذا المرتكز يقدم ردا واضحا على توقعات نظام السيسي وإن لم يذكر الملك سلمان مصر ولا غيرها في خطابه. وفي ذات الوقت، يقدم دعما لعلاقات طبيعية مع تركيا، كون الدولتين يتفقان على عدم استخدام القوة في حل الإشكاليات والأزمات في المنطقة.
إضافة إلى ذلك، أظهر الملك سلمان تمكسه بالشرعية الدينية المنبثقة عن خدمة الحرمين الشريفين، وفي ذلك رد على من يحاول استلاب السعودية هذه الشرعية وإلصاقها بمؤسسة الأزهر بما عليه الآن من تبعية لنظام سياسي ابتعد بالأزهر كثيرا عن أصوله.
وفي كلمته لم يتطرق الملك سلمان إلى إيران أو اليمن أو أي دولة كانت، باستثناء تأكيد دعم الشعب الفلسطيني في الحصول على حقوقه المشروعة. وبذلك، يعيد الملك سلمان للقضية أهميتها ويضعها في سلم الأولويات والاهتمامات كما كانت قبل أن تسعى دول خليجية وعربية لحرف البوصلة عن القدس. ففلسطين هي القضية الجامعة التي لا يجب أن يختلف عليها إثنان، وهي محور إعادة ترتيب القضايا العربية، دون الانشغال في قضايا التوسع والحروب العشوائية ضد تيار شعبي واسع في المنطقة العربية.
وعليه، فقد قال الملك سلمان، بعد الحديث عن القدس مباشرة، "إننا سائرون إلى تحقيق التضامن العربي والإسلامي بتنقية الأجواء وتوحيد الصفوف لمواجهة المخاطر والتحديات المحدقة بهما" على قاعدة الاتفاق على قضية العرب والمسلمين الأولى التي تستوجب البحث في مناصرتها.
وختم خطابه بالبعد الدولي، قائلا، "نحن جزء من هذا العالم، نعيش مشاكله والتحديات التي تواجهه ونشترك جميعاً في هذه المسؤولية، وسنسهم بإذن الله بفاعلية في وضع الحلول للكثير من قضايا العالم الملحة"، وهذا التأكيد يشير إلى أن الرياض لن تقف متفرجة في المقاعد الخلفية أو موقف الحياد السلبي في قضايا المنطقة والعالم، وإنما سيكون لها مساهمتها. والسعودية قادرة على تقديم الحلول المناسبة للكثير من المشكلات الدولية، وخاصة مشكلات منطقتنا المصطنعة في معظمها، لمصالح هذا النظام العربي أو النظام الخليجي ذاك.